الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

ما أودّ قوله.





-1- 

يُحسَـب لي أني أخترت أن أقضي قرابَـة التسعة أيام بطريقتي. طريقتي الحميميـة بينَ الشِعـر، القهَـوة، الموسيقَى، الكتابـة، القراءة، الأفلام و الاجتماعات الصغيرة. الاجتماعات الحافَلة بالأصدقاء. 
يُحسَـب لي انسحابي من العلاقَـات المرهِقـة، الطقوس الاجتمـاعية المتكلِفَـة. تُحسب لي حدود العـزلة التي اخترتهَـا بشخوصهَـا. 
سعيدةٌ لأجل هذا. لأجل انتصَـاري الصغير. الانتصَـار الذي سيسنِـد الأيام القادِمة و يزوّده بالابتسـامات الراضيّـة. 


-2- 

كنتُ أفكر: كيف يتخِـذ أحدهم خطوةً حاسمةً كأن يكتب وصيته؟ بشجاعةٍ، دون أن يشعـر بأنه يتودد لموتهِ، بل على النقيضَ أنـه يتودد لحيـاتهِ و يترك بعده شمعةً مضيئة. الأمـر يبدو مقلقًا، حاولت أن افعلهـا لكنها كانت تتغيـر كلما تغير رِتم سيـر الأيـام، لا وصيّـة ثابتة، لا أفكار ثابتـة، لا شخوص ثابتين، الأمور تتبدل بشكلٍ سريع. كلما كبرت عامًا وجَـدت أن وجهتي تتغيـر، و هذا ما يجعلني اتسـاءل على الدوام: ماذا ستخبئ لي الأيـام القادِمة؟ ما نوع المفاجأة التي ستحمِلها الأيـام؟ ما سبب البكاء القادم؟ ما سبب الابتسامة القادمة؟ من أي بابٍ ستطرق الحيـاة بابي؟  
الوصيّـة كما أراهـا أنا: مبررٌ لذهابكَ الأبدي، كلما تساءل الذين تحبهم "لماذا اختـاره الموت؟ لماذا كان هـوّ؟". مثلاً قصيدة "آني سيكستون" التي تحمِل عنوانًا فريدًا: أريد أن أموت. أصنفَها على أنها وصيّـة. الوصيّـة التي جعلتني أبكي على حزنَ الانتحـاريين. على الجمَـلة التي الآخيرة التي ختمتَ بها كل ما تودّ قوله: أما الحب، أيًّا كان فليس إلا وباء. 


Wanting To Die" 
Anne Sexton
*
Since you ask, most days I cannot remember.
I walk in my clothing, unmarked by that voyage.
Then the most unnameable lust returns.
.
Even then I have nothing against life.
I know well the grass blades you mention
the furniture you have placed under the sun.
.
But suicides have a special language.
Like carpenters they want to know which tools.
They never ask why build.
.
Twice I have so simply declared myself
have possessed the enemy, eaten the enemy,
have taken on his craft, his magic.
.
In this way, heavy and thoughtful,
warmer than oil or water,
I have rested, drooling at the mouth-hole.
.
I did not think of my body at needle point.
Even the cornea and the leftover urine were gone.
Suicides have already betrayed the body.
.
Still-born, they don't always die,
but dazzled, they can't forget a drug so sweet
that even children would look on and smile.
.
To thrust all that life under your tongue! 
that, all by itself, becomes a passion.
Death's a sad bone; bruised, you'd say,
.
and yet she waits for me, year and year,
to so delicately undo an old would,
to empty my breath from its bad prison.
.
Balanced there, suicides sometimes meet,
raging at the fruit, a pumped-up moon,
leaving the bread they mistook for a kiss,
.
leaving the page of a book carelessly open,
something unsaid, the phone off the hook
"and the love, whatever it was, an infection.



- 3- 

للصديق الذي يشعرني دومًا بأن الحيـاة تبتسِـم كلما صافحت وجهي، أقول: 
إن الحيـاة تبتسِم فعلاً. لقد وجدتهَـا مبتسِـمة حينَ عرضتَ عليّ أن أسيـر في الطريق الذي سيوصلني إليكَ. لقد وجدتهَـا مبتسمَـة حينما مدّت إليّ ذراعها لتنتشلني من حزني بطريقتكَ، في الوقت المناسب. لقد وجدتها مبتسمَـة حين جعلت من القواسم المشتركة ما بيننـا أكبر من أن تتجـاهل. لقد وجدتهَـا مبتسمَـة حين بددت يأسي من الأصدقَـاء. لقد وجدتهَـا مبتسمَـة و كأنها تفعلها للمـرّة الأولى. 


-4- 

للصديقـة التي أشعرُ أني ما عِدت أعرفها كلما صافحتهـا، أقول: 
لقد انسحبتِ بشكلٍ يؤلمني. ما عادت يدكِ تبحث عني في ظلام الحيـاة، ما عاد صوتكِ يهرب إليّ كلمـا خنقه البكاء، ما عاد كتفي يمثل لكِ الكتف الصالح لأن يسندكِ كلما زار اليـأس قلبكِ. يا للأسَف، ما عدت الرقم واحـد في سُلَّـم علاقاتكِ، ما عادت اهتماماتنا المشتركَـة ذات قيمة.. ما عدنـا يا صديقتي أصدقَـاء كما يجب، و هذا ما يحزنني. 


-5- 

للكلمَـة المالحـة التي كادت أن تخدِش ابتسامتي، أقول: 
إنني ابتسِـم كما لو أن افعلهَـا للمرّة الأولى. 

-6- 

للشقيّ الذي يقفِـز في ذهني كلما توددت للكتـابة، أقول: 
غادرني، ولو مـرّة. علمّني كيف أواجـه عاطفتي بقلبٍ جافّ، لتهَـرب. علمّني كيف أتجـاهل لغَـة سماركَ و لا ألتفِت. كيف أسيـرُ في الطريق الآخر، الطريق الذي لا يوصلني بكَ، بثباتٍ و ابتسامةٍ لا تُهـزم. كيف أبقي على قلبي حيًّـا دون أن تخدِشه فكرة أني احبكَ. 


الاثنين، 15 أكتوبر 2012

المخَـرج المناسب.



-1- 

كنت أشعـر بالروتين يفترِسني، و يُفسِـد عليّ محاولاتي الجادّة للتأقلم مع المحيط بأدق جزيئاتهِ. 
الروتين الذي لا يترك لك فرصةً لتتحدث، لتفعل، لتكتب، لتقرأ، لتستشعِـر بأحاسيسك كلها عظمَة الموسيقَى. الروتين الذي سيطَـر على تفاصيلي الصغيـرة لفترة، كنت أشعـر اتجاهه باللانتمَـاء، أنـا الصبيّـة التي تطيـر لمغامراتها و حياتها الملوّنـة. كنت أشعِـره على الدوام بأني سأثور عليـهِ، ثورةً تامة ستُختم بالنصَـر، الخوف وحده كان قيدي. الخـوف من الفَشل، لكني الآن أعتقِـد بأني بدأت في المرحَلة الحاسمة من الثورة. المرحَـلة التي تستوجب أن اكون حاضرةً بإرادتي كلها، بصوتي بصورتهِ الكاملة و بالنفَس الطويل. النفسَ الذي لن يخـذِلني أخيرًا. 
مُنـذ الثامن من سبتمبَـر، اليوم الدراسي الفعليّ الأول ركَلت الصبيّـة اللامباليـة و استحضرت الحازِمَـة. الصبيّـة التي تُمسِك بزمام الأمور، تتقبل ساعات الدراسَـة الطويلة برحَـابة، تبتسِـم صباحًا، تصنع مزاجَـها و تقتل التَـذمر. نعم حتَى الآن و خلال السبعَـة أسابيع الماضيّـة استطعت أن أحصِـد نتائجًا مرضيّـة. ستتحسَن مع مرور الوقت بشكلٍ ملحَـوظ. 



-2- 

بعض الصديقات و خلال الخمسَـة أعوام الماضيّـة كانوا يطلقون عليّ لقَب "ماما". اللقب الذي يُشعِـرني فجأةً بأن هذا العالـم سيسقط بشكلٍ مباغت، و أن كل ما علي أن افعله هو أن أتخيّر اللحظة المناسبة لأمدّ فيها يدي، و أنقِـذ الموقف. الأمَـر مخيف، أقصِـد أن أظل متيقظَـة على الدوام تحسّبًا للنداء، دون أن يسرقني الوقت في تأملِ الفَن، أو إعداد كوب القهَـوة أو الانغماس بشكلٍ فعليّ في القراءة. هذا القلقَ جعلني أتخيّـر لقب "الشجَـرة" التي تبقَى واقفـةً أمام عوامَـل التعريّـة، أمام احتضاراتها الداخليّـة. الشجَـرة التي تصفَـرّ دون أن تسقط. الشجَـرة التي تبقي لأصدقائها مساحة الظِل الكافيّـة، دون أن تسألهم أن يطلقوا عليها اسمًا لطيفًا، يشَـاركونها أغنياتهم المفضَـلة أو حتَى أن تسَـألهم حقها في السُقيـاء. أنَـا الصبيّـة الشجَـرة التي تلقَت اللوّم من أصدقائها حينَ قالت يومًا : "أصعب اكتشـاف هو اكتشافك بأن قلبكَ شجرة. و أن اصدقائك يتوددون لشجَـرة قلبك كلما شعـروا بحاجتهم للظلّ، ثم يتركونك وحيدًا." أقول أني اتنـازل للعالـم عن هذا الدور. عن هَـذا القلق المستمِـر. 



-3-  

كنت أفكِـرّ جديًّـا في فكرة أن ابدأ بكتابـةِ يومياتي، لكني دومًا ما أجِـد الوقت المزدحم عائقًا للفكرة. هذا غيـر أن السؤال الشَـرِس الذي يقول: "عن ماذا ستكتبين بما أن ركضك بينَ قاعاتِ محاضراتك يسلب منكِ ثلثي يومكِ؟" يهشِّـم لحظات الإرادة التي كنت أحاول أن ابقيهـا حيّـة لوقتٍ أكبر. كانت لي تجـربة مع تدوين اليوميات ورقيًّـا و كانت تجربـة ضعيفة، لأنني غالبًا ما أنسَى أن أحمِل دفتر اليوميات معي خلال يومي. التجربـة الآخرى التي كانت عبر موقع كنّاشَـة، كانت تجربـة يُسيطر عليها التهاون من قبلي. و لهذا أستطيع أن أقـول أن شغفي لكتابتها لم أوظفه بالشكل المطلوب. 
لكني سأفعلها يومًا. 
سأفعلهـا لأنني لا أودّ أن أكون ورقـةً ساقطةً من حسابات العالـم دون أن أبقي لي أثرًا. سأترك لهذا العـالم شيئًـا يربطني بهِ حتَى بعد أن أودعـه، لتقول أمي: أوه، لقد كانت صغيرتي ناضجةً بما فيـهِ الكفاية. لقد كانت قويّـة لم تستسلم لليأس الذي كان يحاول أن يطرق قلبها بشكلٍ متكرر. 
ستقول أختي: لقد كان تؤلـمها شجاراتنا الصغيرة، لقد كانت تهتم لي. تهتم و كأنني ظِلها الذي تخـاف أن تخفيـهِ الليالي الطويلة. 
سيقول أبي: لقد كانت مكافحـة، و لا إنصياعهـا لصوتِ القبيلة كان صائبًا. صغيرتي التي كانت تجمعني بها صداقةً عميقة، كانت تأخذ هذه العلاقَـة على محمل الجدّ. 
سيقول صديق ما: لقد كانت تخجَـل من فكرة أن تلوذ إليّ من كابوس عابر. هذه الصبيّـة التي جمعتني بها الصَدفة في الوقت الضائع، رحَلت بشكلٍ مباغت. 
ستقول أنتَ: يا للخسَـارة. يا للخسَـارة. و تسقط. 



- 4 - 

* هذه المسافَـة ما بيننا تخدِش إحساسي بالرضا يا صديقتي. 
* كيف يقل وهجكِ في انعكاساتِ صوتي، أنتِ التي بقيتِ محافظةً على دور الكتف القريب؟ الكتف الذي لا أميزه الآن.
* و أنـا؟ أنا التي اعتادت على أن تجِـد العلاقة الخفيّـة بينكِ و أطفال السعادة الراكضَـة في الصدر، كيف اغفر للوقت الذي يمرني دونكِ؟ 
* و أنـا؟ أنا التي تصنفكِ كأغنيّـة تكسِر روتين الحيـاة، كيف انتصِر على استحالة عودتنا كجسدٍ و ظله؟ 
* و أنـا؟ أنا التي كنت أسدِد الشتـائم للعالم ثم ألوذ لظلكِ، كيف أغلق الباب ما بيني و بين العالم الجائع لمشهـدٍ حزين؟ 

إنني اعيد كتابـة هذا لكِ، من باب التأكيـد. أو لعلي افعل هذا لأثبت لكِ بأن الميـاه ما عادت تجريّ بشكلٍ مثالي في مجاريهـا، و بأن المسافة ما بيننـا ممتدة. ممتددددددة ! جدًا. 



-5- 

في هذه اللحظَـة احتاج لدليلٍ حقيقي. دليل للمزاج، لأحدد ما أنـا عليـهِ الآن و اختـار المخرج المناسب. 



-6-

اكتب هذه التدوينـة بينما أنا انصِت بجوارحي للسيّـدة العظيمة وردَة -رحمها الله- و : بودّعَـك
الأغنيّـة التي لا زِلت أنسج حولها ألاف الحكايـا في كل مرةٍ استمع لها. استمعوا لها. اصنعوا قصصكَـم، بينما يدٌ تمتَـد نحوّ الفراغ و الآخرى صوب القلب.